الفلسطيني- الاستعمار الجديد وتصفية القضية وروح المقاومة
المؤلف: أنور الهواري11.17.2025

نحن اليوم، أيها القوم، نواجه الاستعمار بكل تجلياته، القديمة والحديثة. بعضنا أدرك هذه الحقيقة المرة، بينما غفل عنها آخرون، سواء عن قصد أو عن غير إدراك. هذا الاستعمار لا يطمع فقط في أرضنا أو مواردنا أو أسواقنا، بل يسعى إلى تجريدنا من كل مقومات وجودنا، حتى من بقايا وحدتنا وعروبتنا وإنسانيتنا. إنهم ينتزعون منا هويتنا ووعينا وعقولنا وضمائرنا وتاريخنا وحاضرنا، وكل ما يحفظ لنا كياننا فوق هذه الأرض، وكل ما يميزنا كبشر بين سائر الأمم.
إن الإبادة الوحشية التي تتعرض لها المقاومة الفلسطينية منذ أكتوبر 2023 وحتى شباط 2024 ليست مجرد منعطف عابر في مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي، بل هي محاولة حثيثة لتصفية القضية الفلسطينية برمتها، تلك القضية التي تمثل صراعًا أبديًا بين غزاة معتدين وأصحاب حق يدافعون عن أرضهم. هذه التصفية تعتمد على ثلاثة محاور أساسية:
أولًا: انسحاب معظم الدول العربية والإسلامية – أي الحكومات – من دائرة الصراع، وهو انسحاب تدريجي بدأ باعتراف تركيا بإسرائيل عام 1950، ثم مصر عام 1979، وتلاهما انفتاح متزايد على الاعتراف، حتى لم يعد بين العرب والمسلمين من يقاوم أو يمانع. فمن يعترف يخرج من الصراع، ومن يتردد ينتظر الفرصة السانحة.
لقد اطمأنت إسرائيل لهذا الخروج الجماعي، وشعرت بحرية أكبر في ارتكاب أفظع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، دون أن يثير ذلك غضبًا شعبيًا عارمًا في العالم العربي والإسلامي، فاستباحت الأرض وأمعنت في الإبادة بهدف التصفية.
ثانيًا: اتفاقات أوسلو عام 1993 منحت إسرائيل اعترافًا رسميًا من الفلسطينيين أنفسهم، وعلى أساس هذا الاعتراف تأسست السلطة الوطنية الفلسطينية. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح الاعتراف – وليس المقاومة – هو مصدر الشرعية لجزء كبير من النضال الفلسطيني، ذلك النضال الذي يكتفي بما تسمح به موازين القوى دون مواجهة جذرية معها.
ثالثًا: لم يقتصر خروج العالم العربي والإسلامي من الصراع على اعتبار المشروع الصهيوني عدوانًا على العروبة والإسلام، بل تعداه إلى ما هو أخطر، وهو التخلي عن الاستقلال ذاته. لم تصبر هذه الدول على تبعات الاستقلال الوطني الذي ناضلت من أجله أجيال، فاستسلمت للاستعمار الجديد.
لقد كان من قال في سبعينيات القرن الماضي إن 99% من أوراق الشرق الأوسط في يد أمريكا يعبر عن واقع الحال بمرارة، وكان الفارق بينه وبين غيره في صراحته وقدرته على استشراف المستقبل.
لقد أدت هذه المحاور الثلاثة إلى منح إسرائيل هامش حركة واسعًا ومطلقًا في ممارسة العنف ضد المقاومة الفلسطينية.
وعلى النقيض من ذلك، تعاني الدول العربية والإسلامية من هوامش شديدة الضيق ومقيدة بأغلال كثيرة، حتى الدول الكبرى ذات الوزن الإقليمي المعتبر، وتلك التي تتخذ مواقف معلنة ضد إسرائيل، وتلك التي خاضت حروبًا ضدها، وتلك التي تتبنى مرجعيات قومية أو إسلامية.
إن الانضواء تحت مظلة الاستعمار الجديد، سواء عن طيب خاطر أو بالإكراه أو طمعًا في مكاسب آنية، أفقد هذه الدول وزنها ومكانتها في نظر نفسها وفي الإقليم والعالم، حتى أصبحت بلا تأثير يذكر في هذا الشتاء الدموي الذي يشهده العالم. لم تفقد هذه الدول فعاليتها في الإقليم والعالم فحسب، بل فقدت حيويتها الداخلية، حيوية شعوبها وقواها وتنظيماتها ونقاباتها ونخبها وأفكارها.
لقد كشفت حرب الإبادة في غزة عن الوجه القبيح للاستعمار المتجدد، وثبت أنه من المستحيل أن ترتكب إسرائيل هذه الجرائم لولا الدعم الأوروبي، ومن المستحيل أن يكون لهذا الدعم معنى لولا الحماية الأمريكية التي تصل إلى حد الضمان والكفالة والرعاية التامة لأمن إسرائيل ووجودها وتفوقها على كل جوارها العربي والإسلامي، وليس فقط على المقاومة الفلسطينية.
إن هذه الإبادة، سواء أدركنا ذلك أم غفلنا عنه، هي عمل متقدم من أعمال الاستعمار القديم والجديد، اجتمعت فيه كل خصائصه ومراحله. والدليل على ذلك أن من وقف في وجهه، بعد المقاومة الفلسطينية، هم دول أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا، تلك الشعوب التي عانت من ويلات الاستعمار منذ اللحظات الأولى التي بدأت فيها أوروبا بالتوسع خارج حدودها.
إن وصول الأوروبيين إلى سبتة على الساحل المغربي عام 1415، ثم اندفاع المغامرين من الإسبان والبرتغال إلى أمريكا اللاتينية، ثم الهولنديين والبريطانيين إلى جنوب إفريقيا، ليس صدفة أن تكون أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا هما صوت وضمير المقاومة الفلسطينية، وليس العرب والمسلمون.
صحيح أن موجات الاستعمار الأوروبي التي اجتاحت أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا هي نفسها التي بدأت بسحق المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية ثم تطويقهم وحصارهم في كل مكان من العالم القديم، لكن هناك فرقًا شاسعًا بين من حافظ على استقلاله وصبر على تبعاته وبين من انضوى تحت مظلة الاستعمار الجديد.
مع الأخذ في الاعتبار أن الدول العربية ليست سواء في تجربتها مع الاستعمار، فبعضها لم يكن له وجود كدولة قبل الاستعمار، بل كانت كيانات في حالة ما قبل الدولة، وقد خضعت للاستعمار بموجب اتفاقات حماية، ثم خرجت منه بموجب اتفاقات حماية، فلم تكن لها خبرات في مكافحة الاستعمار.
لكن البعض الآخر من الدول العربية خاض تجارب مريرة في مقاومة الاستعمار ومناضلته حتى طرده، وهذه الشعوب لها تجارب حقيقية في معاناة الهيمنة الاستعمارية.
إن التنسيق بين الاستعمارين القديم والجديد، أي أوروبا وأمريكا، سهل انتقال السلطة إلى نخب تجاوبت مع الاستعمار الجديد، باستثناء الفترة الناصرية التي كانت على وعي بحقيقة تجدد الاستعمار، وبفضل هذا الوعي امتلكت قرارها وتمتعت بهامش حركة واسع دون وصاية، وصنعت نموذجًا في المقاومة لولا أنها هزمت نفسها بنفسها بتكتيكات صغيرة أثمرت هزائم كبيرة.
هذا الاستعمار المتجدد لا يكتفي بالتواطؤ على إبادة المقاومة الفلسطينية، ولا بتضييق هامش الحركة على الدول العربية والإسلامية، بل وصل إلى تقييد قدرات الأفراد المتعاطفين مع المقاومة إذا أرادوا التعبير عن آرائهم في وسائل التواصل الاجتماعي أو الجامعات أو الصحافة العالمية أو المنظمات الدولية.
إن الاستعمار الجديد، وفي قلبه إسرائيل، يمتلك شبكة عالمية هائلة ترصد أهدافه وتتولى إحباطها في مكانها ونزع فاعليتها وتحييد قدراتها حيثما كانت.
في عام 2010، ربط الدكتور السيد فليفل في كتابه "التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لجنوب أفريقيا" بين جنوب أفريقيا وفلسطين، وبين جمال عبد الناصر ونيلسون مانديلا، وأهدى كتابه "إلى إنسان أفريقيا في الجنوب، وقد حرر نفسه من ربقة الظلم، وحرر ظالميه من التردي في الظلم، وحرر الإنسان من سقطة العنصرية. وإلى جمال عبد الناصر أدرك وهدة العنصرية في الجنوب، كما أدرك صلتها برفيقتها الصهيونية في فلسطين المحتلة، فمد يده إلى نيلسون مانديلا ورفاقه".
وفي عام 1964، أصدر الدكتور جمال حمدان كتابه "الاستعمار والتحرير في العالم العربي" بروح متفائلة، ورأى الاستعمار في لحظة زوال، لكنه كان على يقين من أن هذا الاستعمار الذي يشهد لحظة غروب تتجسد روحه في استعمار جديد هو إسرائيل.
يقول الدكتور حمدان: "الاستعمار يعبر خط الزوال، ويدخل مرحلة الشفق، ولعلها الآن مرحلة الغسق، إلى أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل"، ثم يتحدث عن الهدف من الكتاب وهو أن "نرسم صورة جديدة مشرقة لموجات التحرر، مراحلها ومحركاتها، اتجاهاتها ومثلها، نقاط قوتها ومواطن ضعفها، كيف دفن الوليد الجديد – يقصد حركات التحرر الوطني – جثة الاستعمار العجوز".
ثم يقول عن إسرائيل إنها "آخر أشباح الاستعمار بل وتناسخ أرواحه، فما العميل الغادر إسرائيل إلا محاولة لتحل روح الاستعمار الطريد – يقصد الاستعمار القديم – في جسم هذا الاستعمار الصهيوني الشريد، ولكن لنا من الآن، أن نبشر هذا وذاك – يقصد الاستعمارين القديم والجديد – بالنسخ لا بالتناسخ".
أردت مما سبق الوصول إلى معنيين أساسيين:
أولًا: أن إسرائيل هي خلاصة الاستعمار ومستقبله وأداته للسيطرة على الشرق الأوسط، وهي استعمار متجدد مستمر، لا يقبل الغرب المساس به، والعكس من ذلك يقبله ضميره، فضمير الغرب يقبل هزيمة وإبادة أي مقاومة تمثل خطرًا حقيقيًا على أمن إسرائيل.
ثانيًا: مقاومة الاستعمار لن يقوم بها من يخضع طوعًا لإرادته، بل تستدعي الالتفات إلى الشعوب الحية التي ذاقت مرارة الاستعمار وتصبر على مشقة الاستقلال ولديها ضمير حي ولم تفقد إنسانيتها تحت ضغط الهيمنة الغربية.
فالاستعمار والرأسمالية توأمان، ولهذا وقفت الشركات العظمى مع الصهيونية، فيما وقفت الضمائر الحية من الشعوب المثقفة مع المقاومة الفلسطينية.
